الجمعة، 29 نوفمبر 2013

ترجل الفارس ولم تسقط الكوفية



قبل 9 أعوام بالتمام والكمال، ترجل فارس القضية، ورمز الأمة، سيد الشهداء، وأول المرابطين في أرض الرباط، ترجل أبو عمار لكن كوفيته لم تسقط.

لم يكن لهذا الرجل الرمز من مصير آخر سوى ما كتبه له الله كان من الذين صدقوا ما عاهدوا الله والأمة. لم يبدل أبو عمار طيلة مشواره ومسيرته الطويلة، خمسين عاما من الكفاح والنضال، ولم يتعب من النضال ولا مل من الكفاح.

خمسون عاما حمل أبو عمار قضية الأمة وقضية الشعب على كتفه، أخرجها من ملفات وأدراج اللاجئين ، زرع الحلم الفلسطيني ورعى الهم الوطني، وبنا الثورة وأطلق رصاصتها الأولى في ميادين القتال وساحات الوغى، لم يطلق رصاصته الأولى من شرفات القصور، ولا من صالونات ومزادات العهر السياسي في أيام التردي العربي.

آمن أبو عمار طيلة مسيرته النضالية أن الشعب الفلسطيني، "شعب الجبارين" لا يمكن له أن يهون ولا أن يستكين للظلم والعدوان مهما طال النفق واشتدت حلكة الظلمات فيه. كان مؤمنا بعدالة قضيته وحق شعبه بالحياة الكريمة الآمنة، سار على درب الآلام والأشواك تحمل من ظلم ذوي القربى، وما لان، واجه العدو في الداخل والخارج، وما انتصر إلا لفلسطين، كانت هي قضيته الأولى وكان هو فينقها الذي انتفض من الرماد في وقت كانت فيه الأحلاف والتحالفات الدولية والإقليمية كلها تسعى لوأد فلسطين وتقاسمها وتشتيت أبنائها، وتدنيس قدسها.

لم يكن أبو عمار مجرد "رئيس أو زعيم أو قائد. كان هو الرمز بامتياز في عصر عزت فيه الرموز على الأمة والشعب. ل. امتشق أبو عمار قرار فلسطين المستقل سلاحا في وجه الخصوم قبل الأعداء والأخوة قبل الأصدقاء، فعادت فلسطين لنفسها وذاتها عروس الأمة وتاجها وعنوانها، ولم يكن ممكنا بعد حصارها أو تغيبها أو بيعها لا هي ولا ناسها في سوق النخاسة، فانتصرت فلسطين الغائبة المغيبة لأبو عمار ومعها انتصرت الأمة لرمز أبى ورفض أن يساوم أو يستسلم، بل أصر على الحق والعدل، وعلى الرباط في أرض الرباط.

كان أبو عمار قد أصبح الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية، المعادلة التي نفض عنها ما تراكم من غبار تمهيدا لدفنها وطرحها معادلة عصية لا يمكن تجاهلها ولا شطبها، لا محليا ولا إقليميا ولا دوليا.

كان سياسيا من الطراز النادر، يعرف من أين تؤكل الكتف، متيقظ، يلتقط الإشارة مهما كانت صغيرة ليعرف دلالتها، أدرك أنه لا بد له من مواجهة كل المؤامرات، وكانت الوحدة الحقيقة البعيدة عن الشعارات الزائفة، والمأجورة حرز الأمن والأمان في عرفه ومعتقده، ففتح صدره على رحابة لم تتوفر لأي زعيم من قبل، فاتسع صدره حتى لأولئك الانتهازيين الذين كانوا يطعنونه ويقدحونه ليحصلوا على جواز سفر لقصور الرؤساء و لبلاط الملوك والأمراء ، علهم يقبضون المعلوم، كان يفتح لهم صدره وهو يعلم خطاياهم ويدرك حجم خطيئتهم معتقدا أنه بذلك قد يحتوي الصالح والطالح، منذ بيروت مرورا بتونس وحتى فلسطين .

وفي رام الله كان الحصار المجنون والأرعن، وصمد أبو عمار وما هان، وظل شامخا منتصب القامة، حاصروه وعزلوه، وظلت كوفيته رمزا لصموده ولم تسقط، ولهذه الكوفية قصة . أذكر أنني في إحدى المرات التي دخلت فيها المقاطعة بعد فك الحصار الأول قلت له وأنا أمسك بكوفيته: "هذه كوفية العرب إن سقطت سقط العرب"، فانفرجت أساريره وكأنه طفل قد انتصر.

ترجل أبو عمار ورحل عنا لكن كوفيته لم تسقط، كان هناك من شعروا في أوج الحصار أن حصاره يحرجهم، أما نحن فشعرنا بعد غياب أبي عمار ورحيله أن رحيله يريحهم من دم عثمان فلسطين.

وإسمح لي أن أبلغك بأن شعبك ما زال صامداً , وأن الحواجز العسكرية قد زادت وأن جدار الفصل العنصري يتلوى كالأفعى في الأرض الفلسطينية تماماً كما هي الخرائط التي كنت تفردها للذين أرادوا أن يسمعوا أو لم يريدوا. المسجد الأقصى ما زال هناك شامخاً وكأنه كان ينتظر قدومك للصلاة فيه أو للصلاة عليك فيه, وغزة ما زالت تلاطم المخرز , وبعض ابنائك هناك يسيؤون استخدام السلاح. أما بعض زملائك من الملوك والرؤساء فهم كما عهدتهم فلم يتغير شيئاً فيهم.
أسمع صوتك أحياناً يهدأ من روعي وروع من خلفت وراءك تشد من أزرهم وتبتسم رغم الصعاب لتدَب فينا جميعاً روح التفائل واليقين بأن شبلاً من أشبال شعبنا وزهرةً من زهور بلادنا سيرفع علم فلسطين عالياً فوق كنائس ومساجد القدس وفوق أسوارها.. يا أيها الأب الذي ما فتأ يسأل عن أبنائه وبناته وشعبه حتى وهو مسجى في قبر داخل غرفة هي أوسع من الغرفة التي كان يعيش فيها محاصراً.

ترجلت يا أبو عمار وما سقطت كوفيتك، ترجلت وسيبقى شعبك يذكرك رمزا رغم المحاولات لمحو ذكراك واسمك، وهو في رباط إلى يوم الدين، وها هو أخيك ورفيق دربك أبو مازن يكمل المسيرة على طريق أهل الرباط يمخر في عباب الأمواج العاتية والعواصف المتدافعة من كل صوب، يواصل الطريق نحو بر الأمان لهذا الشعب على طريق الدولة وعاصمتها القدس الشريف.

قال تعالى في محكم تنزيله، بسم الله الرحمن الرحيم: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". صدق الله العظيم.

ذهبت ولم ترجع . ذهبت ولم تعد رغم وعدك .

تحيةً لك والدي العزيز, تحيةً لروحك الطاهرة سيدي الرئيس أبو عمار .

" الصورة تبين الكوفية وراديو ترانزستور ونسخة من المصحف الشريف التي لازمت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حتى لحظاته الأخيرة "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق